قال : ومن الاعتبار في ذلك : لو أن رجلاً كان في يده قدح من قوارير صاف، وفيه شيء، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى : لو أن رجلاً بنى داراً بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتاً في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط
بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق.
قال أحمد رضي الله عنه : ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه :﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم ﴾ إلى أن قال :﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ قالوا : إن الله عز وجل معنا وفينا. فقلنا : لم قطعتم الخبر من أوله ؟ إن الله يقول :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم ﴾ يعني أن الله بعلمه رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم، يفتح الخبر بعلمه، ويختمه بعلمه. انتهى.
ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور : وقلنا للجهمية : زعمتم أن الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فقلنا لهم : أخبرونا عن قوله الله جل ثناؤه :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ﴾.
لِمَ تجلى، إذا كان فيه بزعمكم ؟ ولو كان فيه كما تزعمون، لم يكن يتجلى لشيء، لكن الله تعالى على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئاً لم يكن يراه قط قبل ذلك.