ثم أصل هذه المقالة إنما هو مأخود عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة - أعني أن الله ليس على العرش حقيقة وإنما
﴿ استوى ﴾ استولى ونحو ذلك - أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفون وأظهرها، فتنسب مقالة الجهمية إليه، والجعد أخذ مقالته عن أَبَان بن سمعان، وأخذها أَبَان من طالوت ابن أخت لَبِيد بن أعصم، وأخذها طالوت من لَبِيد بن أصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي ﷺ.
وكان الجعد هذا - فيما قيل - من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة، والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ومذهبهم في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية، أو مركبة منهما، وهم الذين بُعث إبراهيم الخليل ﷺ إليهم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة، وأخذها الجهم أيضاً - فيما ذكره الإمام أحمد وغيره - من السمنية بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والصائبين والمشركين.
والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين، وإما من المشركين. ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المئة الثانية، زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال، ابتداء من جنس ما ألقاه في قولب أشباههم.
ولما كان في حدود المئة الثانية، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة - مثل مالك رضي الله عنه وسفيان بن عيينة، وأبي يوسف والشافعي، وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم - في بشر المريسي هذا كثير في ذمة وتضليله.


الصفحة التالية
Icon