وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام، لأنه من أصول العقائد الدينية، ومهمات المسائل التوحيدية، وقد كثر فيه تعارك الآراء، وتصادم الأهواء، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأتي تأباها فطرة الله أشد الغباء، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين، فإن الأئمة منهم، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى :﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ أي : يغطيه به، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار، فيغطيه ويلبسه، حتى يذهب بنوره، ويصير الجو مظلماً، بعد ما كان مضيئاً.
قال الشهاب : وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الإستعارة، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه، فكأنه لف عليه لف الغشاة، أو شبه تغييب كل منهما، بطريانه عليه، بستر اللباس للابسه. انتهى.
ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملها، ولذلك قرئ :﴿ يَغْشى اللَّيْلَ النَّهارُ ﴾ بنصب الليل، ورفع النهار :﴿ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ أي : يعقبه سريعاً، كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء.
قال الرازي : وإنما وصف سبحانه هذه الحركة السرعة،
لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا : الْإِنْسَاْن إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك، كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى :﴿ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾ أي : مذللات لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع بقضائه وتصريفه.