كيفَ استوى يا أبا عبد الله ؛ فسكت مالكٌ مليّاً حتّى علاه الرّحَضاء ثمّ سُرّيَ عنه، فقال :"الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالاً" واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله :"وأظنّك رجُلَ سوء أخْرِجُوه عنّي" وأنّه قال :"والسؤالُ عنه بدعة".
وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها :"فقال : فَعَلَ الله فعلا في العرش سمّاه استواء".
قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات، أحسنها : ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قولَ الأخطل:
قد استوى بِشْرٌ على العراق...
بغيرِ سيف ودم مُهْرَاق
وأُراه بعيداً، لأنّ العرش ما هو إلاّ من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية، وقد قال أهل اللّغة : إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعَلى أو بإلى، قال البخاري، عن مجاهد : استوى عَلا على العرش، وعن أبي العالية : استوى إلى السّماء ارتفع فسَوى خلقهن.
وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحَرف الذي يُعدّى به فعله، فإن عُدّي بحرف ( على ) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل، وهو تمثيل شأننِ تصرّفه تعالى بتدبير العوالم، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعاً عقب ذكر خلق السّماوات والأرض، فالمعنى حينئذ : خلقَها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير المَلِك أمور مملكته مستوياً على عَرشه.
وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء ﷺ " يَقْبِض الله الأرضَ ويطوي السّماوات يومَ القيامة ثمّ يقول : أنا المَلِك أيْنَ ملوك الأرض ".


الصفحة التالية
Icon