وقد دلّت ( ثُمّ ) في قوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش، تنبيهاً على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييراً في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود : إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ﴾ [ ق : ٣٨ ].
وجملة ﴿ يغشى الليل النهار ﴾ في موضع الحال من اسم الجلالة، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش، وتنبيه على المقصود من الاستواء، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس ( ٣ ) وسورة الرّعد ( ٢ ) بقوله:
﴿ يدبر الأمر ﴾ وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليللِ الحدوث، ولكونه متكرّراً حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم.
والإغشاء والتّغشية : جعل الشّيء غاشياً، والغَشْي والغشيان حقيقته التّغطيّة والغمّ.
فمعنى :﴿ يغشى الليل النهار ﴾ أنّ الله يجعل أحدهما غاشياً الآخر.
والغشي مستعار للإخفاء، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب : جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي، ولهذا استغنى بقوله :﴿ يغشى الليل النهار ﴾ عن ذكر عكسه ولم يقل : والنّهار اللّيل، كما في آية ﴿ يكور الليل على النهار ﴾ [ الزمر : ٥ ] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان.


الصفحة التالية
Icon