قوله تعالى ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ذلك من الوفاء بحق الربوبية والقيام بحق العبودية مقتضياًَ للصلاح أمر بإدامته بالنهي عن ضده في قوله :﴿ولا تفسدوا﴾ أي لا تدفعوا فساداً ﴿في الأرض﴾ أي بالشرك والظلم، فهو منع من إيقاع ماهية الإفساد في الوجود، وذلك يقتضي المنع من جميع أنواعه فيتناول الكليات الخمس التي اتفقت عليها الملل، وهي الأديان والأبدان والعقول والأنساب والأموال ﴿بعد إصلاحها﴾ والظاهر أن الإضافة بمعنى اللام وهي إضافة في المفعول، أي لا تدنسوها بفساد بعد أن أصلحها لكم خلقاً بما سوى فيها من المنافع المشار إليها بقوله ﴿يغشي الليل النهار﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، الدال على الوحدانية الداعي إلى الحق إقامة للأبدان، وأمر بما أنزل من كتبه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام إقامة للأديان فجمع إلى الإيجاد الأول الإبقاء الأول.
ولما كان ذلك ربما اقتضى الاقتصار بكمال التذلل على مقام الخوف، نفى ذلك بقوله ﴿وادعوه خوفاً﴾ أي من عدله ؛ ولما كان لا سبب للعباد من أنفسهم في الوصول إليه سبحانه، عبر بالطمع فقال :﴿وطمعاً﴾ أي في فضله، فإن من جمع بين الخوف والرجاء كان في مقام الإحسان وكأنه مشاهد للرحمن، ما زجره زاجر الجلال بسياط سطوته إلا دعاه داعي الجمال إلى بساط رأفته، ومن حاز مقام الإحسان كان أهلاً للرحمة ﴿إن رحمت الله﴾ أي إكرام ذي الجلال والإكرام لمن يدعوه على هذه الصفة، وفخمها بالتذكير لإضافتها إلى غير مؤنث فيما قال سيبوية، فقال :﴿قريب﴾ وكان الأصل منكم، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال :﴿من المحسنين ﴾. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٣ صـ ٤٤﴾
فصل
قال الفخر :
قوله تعالى ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها﴾
فيه مسألتان :
المسألة الأولى :
قوله :﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها﴾ معناه ولا تفسدوا شيئاً في الأرض، فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف، وإفساد العقول بسبب شرب المسكرات، وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة : النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول.