لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال : إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث ؟ وذكروا في الجواب عنه وجوهاً : الأول : أن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة.
الثاني : قال الزجاج : إنما قال :﴿قَرِيبٌ﴾ لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله :﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾ بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر.
الثالث : قال النضر بن شميل : الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله :﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ] فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ، فلذلك ذكره قال الشاعر :
إن السَّماحة والمُروءة ضُمِّنا.. قبراً بمرو على الطَّريق الواضح
قيل : أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم.
والرابع : أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا : حائض ولابن تامر أي ذات حيض ولبن وتمر.
قال الواحدي : أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال : تقول العرب : هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني، لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضاً قريبة وبعيدة تنبيهاً على معنى قربت وبعدت بنفسها.
المسألة الخامسة :
تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قرباً من الآخرة، وبعداً من الدنيا، فإن الدنيا كالماضي، والآخرة كالمستقبل، والأنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعداً عن الماضي، وقرباً من المستقبل.
ولذلك قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد.. ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعداً في كل ساعة، وأن الآخرة تزداد قرباً في كل ساعة، وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت، لا جرم ذكر الله تعالى :﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها﴾ بناء على هذا التأويل. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٤ صـ ١٠٨ ـ ١١٢﴾


الصفحة التالية
Icon