وثانيها : أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا : ما علم حسنه بالعقل فعلناه، وما علم قبحه تركناه، وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه، فإن كنا مضطرين إليه فعلناه، لعلمنا أنه متعال عن أن يكلف عبده ما لا طاقة له به، وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه للحذر عن خطر العقاب، ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر.
وثالثها : أن بتقدير : أنه لا بد من الرسول ؛ فإن إرسال الملائكة أولى، لأن مهابتهم أشد، وطهاراتهم أكمل، واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر، وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم.
ورابعها : أن بتقدير : أن يبعث رسولاً من البشر، فلعل القوم اعتقدوا أن من كان فقيراً، ولم يكن له تبع ورياسة فإنه لا يليق به منصب الرسالة، ولعلهم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي، فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان، فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين، فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة، ثم أن نوحاً عليه السلام أزال تعجبهم وقال : إنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة، لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء، وهو ينافي التكليف، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى :﴿وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً﴾ [ الأنعام : ٩ ] فبقي أن يكون إيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان، وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم، ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله، ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله، فهذا هو المراد من قوله :﴿لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية.