ولما كان إتيانه بالبينات سبباً لوجوب امتثال أمره، قال مسبباً عنه :﴿فأوفوا الكيل﴾ أي و المكيال والوزن ﴿والميزان﴾ أي ابذلوا ما تعطون بهما وافياً، فالآية من الاحتباك، وكان المحكي عنه هنا من أوائل قوله لهم فترك التأكيد الرافع لمجاز المقاربة بذكر القسط.
ولما كان الأمر بالوفاء يتضمن النهي عن البخس، صريح به على وجه يعم غيره فقال :﴿ولا تبخسوا﴾ أي تنقصوا وتفسدوا كما أفسد البخسة ﴿الناس أشياءهم﴾ أي شيئاً من البخس في كيل ولا وزن ولا غيرهما، والناس - قال في القاموس - يكون من الإنس ومن الجن جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه " أل "، وقال أبو عبد الله القزاز : الناس أصله عند البصريين أناس، ثم أدخلوا الألف واللام على ذلك وحذفوا الهمزة وبقي الناس، وكان أصله فعال من : أنست به، فكأنه قيل : أناس - يعني على القلب، قال : لأنه يؤنس إليهم - انتهى.
إذا علم هذا علم أن نهيه ﷺ عن بخس الجمع الذين فيهم قوة المدافعة نهى عن بخس الواحد من باب الأخرى لأن الشرائع إنما جاءت بتقوية الضعيف على حقه.
ولما نهى عن الفساد بالبخس، عم كل فساد فقال :﴿ولا تفسدوا﴾ أي توقعوا الفساد ﴿في الأرض﴾ بوضع شيء من حق الحق أو الخلق في غير موضعه ؛ ولما نهاهم عن هذه الرذائل، ذكر بنعمة الله تاكيداً للنهي بما في ذلك من التخويف وحثاً على التخلق بوصف السيد فقال :﴿بعد إصلاحها﴾ أي إصلاح الله لها بنعمة الإيجاد الأول بخلقها وخلق منافعها وما فيها على هذا النظام البديع المحكم ثم بنعمة الإبقاء الأول بإنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الشرائع التي بها يحصل النفع وتتم النعمة بإصلاح أمر المعاش والمعاد بتعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله، ويجمع ذلك كله التنزه عن الإساءة.
ولما تقدم إليهم بالأمر والنهي، أشار إلى عظمة ما تضمنه ذلك حثاً لهم على امتثاله فقال :﴿ذلكم﴾ أي الأمر العظيم العالي الرتبه مما ذكر في هذه القصة ﴿خير لكم﴾ ولما كان الكافر ناقص المدارك كامل المهالك، أشارإلى ذلك بقوله :﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي فلا تفسدوا أو فأنتم تعرفون صحة ما قلته، وإذ عرفتم صحته عملتم به، وإذا عملتم به أفلحتم كل الفلاح، ويجوز- وهو أحسن - أن يكون التقدير : فهو خير لكم، لأن المؤمن يثاب على فعله لبنائه له على أساس الإيمان، والكافر أعماله فاسده فلا يكون فعله لهذه الأشياء خيراً له من جهة إسعاده في الآخرة لأنه لا ثواب له. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٣ صـ ٦٥ ـ ٦٦﴾