وَمِلَّةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ دِينٌ مَالِكٌ لِلنَّفْسِ، حَاكِمٌ عَلَى الْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، يُقْصَدُ بِهِ الْكَمَالُ الْبَشَرِي الْأَعْلَى بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنْ إِقَامَتِهِ فِي وَطَنِهِ، وَإِصْلَاحِ أَهْلِهِ بِهِ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ بَدْءًا وَدَوَامًا، وَإِنْ مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّتَهُ فَفُتِنَ فِي دِينِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَاجِبًا، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شُعَيْبٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ إِخْرَاجًا وَهُمْ كَارِهُونَ، كَمَا أُخْرِجَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٩ : ٢٦) وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى الْهِجْرَةَ عَلَى مَنْ يُسْتَضْعَفُ فِي أَرْضِ وَطَنِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ فِيهَا، وَيُوجِبُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْأَوْطَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْهِجْرَةَ مِنْهَا إِذَا مُنِعُوا حُرِّيَّتَهُمُ الشَّخْصِيَّةَ فِيمَا هُوَ دُونَ الدِّينِ وَالْوِجْدَانِ، بَلْ يَعِزُّ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنْ يُقِيمَ فِي وَطَنِهِ إِذَا مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّةَ الْفِسْقِ وَالْآثَامِ، وَرُبَّ أُنَاسٍ عَزَّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ وَطَنِهِمْ، فَآثَرُوا الْبَقَاءَ فِيهِ مَفْتُونِينَ فِي دِينِهِمْ، فَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ لِيَأْمَنُوا عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَظَلُّوا يُسِرُّونَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَلْقِينِهِ لِأَوْلَادِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ


الصفحة التالية
Icon