بَيْنَ نَوْعَيِ الْإِرْسَالِ، أَعْنِي أَنَّ لَفْظَهُ الْخَاصَّ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، كَمَا يُؤَكِّدُهَا عَطْفُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أُولَئِكَ بِـ " ثُمَّ " الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ وَالتَّرَاخِي إِمَّا فِي الزَّمَانِ، وَإِمَّا فِي النَّوْعِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَالْأَخِيرُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الْإِرْسَالَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَأَعْقَبَهُ فِي قَوْمِ مُوسَى مُخَالِفٌ لِجُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ مُخَالَفَةَ تَضَادٍّ، فَقَدْ أُنْقِذَتْ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ تَعْبِيدُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لَهَا وَسَوْمُهُمْ إِيَّاهَا أَنْوَاعَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَاهْتَدَتْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ، فَأَعْطَاهَا فِي الدُّنْيَا مُلْكًا عَظِيمًا، وَجَعَلَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَعَدَّ بِذَلِكَ الْمُهْتَدِينَ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ فَأَيْنَ هَذَا الْإِرْسَالُ مِنْ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ، الَّذِي أَعْقَبَ أَقْوَامَ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ ؟ وَقَدْ يَظْهَرُ لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ وَجْهٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْعَطْفِ عَلَى قِصَّةِ نُوحٍ ؛ فَإِنَّ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَصَصِ مَنْ بَعْدَهُ قَدْ جُعِلَ تَابِعًا وَمُتَمِّمًا لَهَا بِعَدَمِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ " أَرْسَلْنَا " كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِلَّا فَإِنَّ شُعَيْبًا، وَهُوَ آخِرُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى وَهُوَ حَمُوهُ، وَقَدْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَهُوَ لَدَيْهِ مَعَ زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي سَيْنَاءَ، وَأَرْسَلَهُ مِنْهَا إِلَى