وفي نص آخر :﴿ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ﴾ والمسألة واضحة المعالم.. إنها دعوة موسى إلى " رب العالمين ".. هي التي تزعج وتخيف.. إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين. وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته. وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون، ويعبدون الناس لما يشرعون!.. إنهما منهجان لا يجتمعان.. أو هما دينان لا يجتمعان.. أو هما ربان لا يجتمعان.. وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون.. ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين. فأولى أن يفزعوا الآن وقد ألقي السحرة ساجدين. قالوا : آمنا برب العالمين. رب موسى وهارونَ والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين!
وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع :
﴿ فسوف تعلمون.
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لأصلبنكم أجمعين ﴾
..
إنه التعذيب والتشويه والتنكيل.. وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق، الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان.. وعدة الباطل في وجه الحق الصريح..
ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان ؛ تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة ؛ وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم. إنها لا تقف لتسأل : ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟.. لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك، فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق..
﴿ قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون. وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين ﴾..
إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع. كما أنه لا يخضع أو يخنع. الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره :


الصفحة التالية
Icon