ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه، وهو قولهم لفرعون :﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا﴾ فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم، بل يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل.
يقال : نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء، وقد مر عند قوله :﴿قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا﴾ [ المائدة : ٥٩ ] قال ابن عباس : يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا.
والمراد : ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى.
ثم قالوا :﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ معنى الإفراغ في اللغة الصب.
يقال : درهم مفرغ إذا كان مصبوباً في قالبه وليس بمضروب، وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ، فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإناء.
قال مجاهد : المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع، وفي الآية فوائد :
الفائدة الأولى :﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أكمل من قوله : أنزل علينا صبراً، لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية، فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه.
والفائدة الثانية : أن قوله ﴿صَبْراً﴾ مذكور بصيغة التنكير، وذلك يدل على الكمال والتمام، أي صبراً كاملاً تاماً كقوله تعالى :﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة﴾ [ البقرة : ٩٦ ] أي على حياة كاملة تامة.
والفائدة الثالثة : إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم، ثم إنهم طلبوه من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه.
قال القاضي : إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر، وذلك معلوم في الأدعية.