والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه، إنما يدل على أنه قد يجب، كقوله تعالى :﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض ﴾، وقوله :﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين، أُمروا بالنظر، ليعرفوا الحق، ويقروا به، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء.
قال أبو حيان التوحيدي في " مقابساته "، في المقابسة الثانية والأربعين :
قيل لأبي الخير : حدثنا عن معرفة الله، تقدس وعلا، ضرورة هي أم استدلال ؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافاً شديداً، وتنابذوا عليه تنابذاً بعيداً، ونحب أن يحصل لنا جواب، فيفسر على حد الإختصار مع البيان.
فقال : هي ضرورة من ناحية العقل، واستدلال من ناحية الحس، ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول، أو بالحس في المحسوس، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله، وأن يظن تارة أنها ضرورة، فإن العقل السليم من الآفة، البريء من العاهة، يحث على الإعتراف بالله تقدس اسمه، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه لكن ضرورة فيه لكن ضرورة لائقة بالعقل، لأن ضرورة العقل ليست
كضرورة الحس، لأن ضرورة الحس فيها جذب واختيار، وحمل وإكراه، وضرورة العقل لطيفة جداً، لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويخفف.
ثم ضرب مثلاً لطيفاً، وقال بعده : فعلى هذا، فإن الله تقدس اسمه، معروف عند العقل بالإضطرار، لا ريب عنده في وجوده، ومستدل عليه عند الحس، لأنه يستحيل كثيراً ولا يثبت أصلاً، فمن استدل ترقى من الجزئيات، ومن ادعى الإضطرار انحدر من الكليات.
وكلا الطريقين قد وضح بهذا الإعتبار و كُفي مؤونة الخبط والإكثار.