ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك، رهبهم ببيان أن الذي سبب له هذا الشقاء هو إيتاء الآيات فقال :﴿فانسلخ منها﴾ أي فارقها بالكيلة كما تنسلخ الحية من قشرها، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه، فتمكن من الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن من أحد، فأشقاه الله، وهذا معنى ﴿فأتبعه الشيطان﴾ أي فأدركه مكره فصار قريناً له ﴿فكان﴾ أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان ﴿من الغاوين﴾ أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم، وعبر في هذه القصة بقوله :﴿اتل﴾ دون ﴿وأسألهم عن﴾ [ الأعراف : ١٦٣ ] نحو ما مضى في القرية، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم، فهو شرف لهم، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتلعثموه فلا تكون تلاوته ـ ﷺ ـ بعد ذلك لما أنزل في شأنه واقعاً موقع ما لو أخبرهم به قبل، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم ﴿سيغفر لنا﴾ [ الأعراف : ١٦٩ ] بما هم قائلون به، فيكون من باب الإلزام، وكأنه قيل : أنتم قائلون بأن من أشرك لا يغفر له لتركه ما نصب له من الأدلة حتى إنكم لتقولون ﴿ليس علينا في الأميين سبيل﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] لذلك، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم به الميثاق العام؟ ما ذلك إلا مجرد هوى، فإن قلتم : الأمر في أصل التوحيد أعظم فلا يقاس عليه، قيل لكم ؛ أليس المعبود قد حرم الجميع؟ وعلى التنزل فمن المسطور في كتابكم أمر بلعام وأنه ضل، وقد كان أعظم من أحباركم، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول، وكان سبب هلاكه - كما تعلمون - وخروجه
من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته على ملك زمانه بأن يرسل النساء إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال، فقد بحتم كذبكم في قولكم ﴿سيغفر لنا﴾ وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا ما فعل به. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٣ صـ ١٥٠ ـ ١٥٢﴾


الصفحة التالية
Icon