فصل


قال الفخر :
ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية، فقال :﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾
وفيه سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات ؟ وجوابه من وجوه : الأول : أن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع، وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم، ولذلك قال :﴿فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال :﴿إِنَّ الذين﴾ ولم يقل التي.
والجواب الثاني : أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم، فلم جعلتم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً ؟ ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم.
فقال :﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] ثم أكد هذا البيان بقوله :﴿فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله :﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ﴾ لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية، ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لأبيه :﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً﴾ [ مريم : ٤٢ ] وقوله :﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة، ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية، وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها، وأن لا يشتغل إلا بعباده الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٥ صـ ٧٥﴾
وقال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ ﴾
عَنَى بِالدُّعَاءِ الْأَوَّلِ تَسْمِيَتَهُمْ الْأَصْنَامَ آلِهَةً، وَالدُّعَاءِ الثَّانِي طَلَبَ الْمَنَافِعِ وَكَشْفَ الْمَضَارِّ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَذَلِكَ مَيْئُوسٌ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ :﴿ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ قِيلَ : إنَّمَا سَمَّاهَا عِبَادًا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الْعِبَادِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ هَذِهِ الْأَوْثَانَ مَخْلُوقَةٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾. أ هـ ﴿أحكام القرآن للجصاص حـ ٣ صـ ﴾


الصفحة التالية
Icon