"وربما كان ذلك، أيضاً، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت أخبارها متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دين جاء ليكون منهاج حياة، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة. "... الخ... "
فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله ( ﷺ ) مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك..
أولاً: لأن هناك مجالاً للتبليغ والبيان، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ; وبقيادة رسول الله ( ﷺ ) في تصريف شؤونها السياسية. فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحاً ولا يثير حرباً، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله ( ﷺ ) وكان واضحاً أن السلطة الحقيقية في المدينة في يد القيادة المسلمة. فالمجال أمام الدعوة مفتوح، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة.
ثانياً: أن الرسول ( ﷺ ) كان يريد التفرغ - في هذه المرحلة - لقريش ; التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى ; الواقفة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول الله ( ﷺ ) بإرسال "السرايا" وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة.