ولم يستقر من عمل جيوش المسلمين، في غزواتهم مع رسول الله ﷺ ومع الأمراء الصالحين في زمن الخلفاء الراشدين، ما ينضبط به مدى الإذن أو المنع من الفرار، وقد انكشف المسلمون يوم أُحُد فعنفهم الله تعالى بقوله:
﴿ إن الذين تولوا منكم يومَ التقي الجمْعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ] وما عفا عنهم إلاّ بعد أن استحقوا الإثم، ولما انكشفوا عند لقاء هوازن يوم حنين عنفهم الله بقوله :﴿ ثم ولّيتم مدبرين ﴾ إلى قوله ﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفورٌ رحيمٌ ﴾ في سورة براءة ( ٢٥ ٢٧ ) وذِكر التوبة يقتضي سبق الإثم.
ومعنى ﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾ لا توجهوا إليهم أدباركم، يقال : ولي وجهه فلاناً إذا أقبل عليه بوجهه ومنه قوله تعالى :﴿ فوَل وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] فيعدى فعل ولّى إلى مفعولين بسبب التضعيف، ( ومجرده وَلِيَ ) إذا جعل شيئاً والياً أي قريباً فيكون ولّى المضاعف مثل قرب المضاعف، فهذا نظم هذا التركيب.
و( الأدبار ) جمع دُبر، وهو ضدّ قُبُل الشيء وجهه، وما يَتوجه إليك منه عند إقباله على شيء وجعلِه أمامه، ودبره ظهره وما تراه منه حين انصرافه وجعله إياك وراءه، ومنه يقال استقبل واستدبر وأقبل وأدبر، فمعنى توليتهم الأدبار صرف الأدبار إليهم، أي الرجوع عن استقبالهم، وتولية الأدبار كناية عن الفرار من العدو بقرينة ذكره في سياق لقاء العدو، فهو مستعمل في لازم معناه مع بعض المعنى الأصلي، وإلاّ فإن صرف الظهر إلى العدو بعد النصر لا بد منه وهو الانصراف إلى المعسكر، إذ لا يفهم أحد النهي عن إدارة الوجه عن العدو، وإلاّ للزم أن يبقى الناس مستقبلين جيش عدوهم، فلذلك تعين أن المفاد من قوله :﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾ النهي عن الفرار قبل النصر أو القتل. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٩ صـ ﴾