وهذه الآية تعريض بتشبيههم بالدواب، فإن الدواب ضعيفة الإدراك، فإذا كانت صماء كانت مثلاً في انتفاء الإدراك، وإذا كانت مع ذلك بكماً انعدم منها ما انعدم منها ما يعرف به صاحبها ما بها، فانضم عدم الإفهام إلى عدم الفهم، فقوله :﴿ الصم البكم ﴾ خبرَاننِ عن الدواب بمعناهما الحقيقي، وقوله :﴿ الذين لا يعقلون ﴾ خبر ثالث، وهذا عدول عن التشبيه إلى التوصيف لأن ﴿ الذين ﴾ مما يناسب المشبّهين إذ هو اسم موصول بصيغة جمع العقلاء وهذا تخلص إلى أحوال المشبهين كما تخلص طرفة في قوله
خذول تُراعي رَبْرباً بخميلة
تَنَاول أطراف البرير وترتدي...
وتبسم عن ألْمى كأنّ منوّراً
توسط حرُ الرمل دعص له نَدِي...
و﴿ شر ﴾ اسم تفضيل، وأصله "أشر" فحذفت همزته تخفياً كما حذفت همزة خير كقوله تعالى :﴿ قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبةً عند الله ﴾ [ المائدة : ٦٠ ] الآية.
والمراد بالدواب معناه الحقيقي، وظاهر أن الدابة الصمّاء البكماء أخسّ الدواب.
﴿ عند الله ﴾ قيد أريد به زيادة تحقيق كونهم، أشر الدواب بأن ذلك مقرر في علم الله، وليس مجرد اصطلاح ادعائي، أي هذه هي الحقيقة في تفاضل الأنواع لا في تسامح العرف والاصطلاح، فالعُرف يُعد الإنسان أكمل من البهائم، والحقيقة تفصل حالات الإنسان فالإنسان المنتفع بمواهبه فيما يُبلغه إلى الكمال هو بحق أفضل من العُجم، والإنسان الذي دَلّى بنفسه إلى حَضيض تعطيل انتفاعه بمواهبه السامية يصير أحط من العجماوات.
والمشبهون بالصم البكم هم الذين قالوا ﴿ سمعنا وهم لا يسمعون ﴾، شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا لأنه مما يكفي سماعه في قبوله والعمل به وشبهوا بالبكم في انقطاع الحجة والعجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهمُ ما قبلوا ولا أظهروا عذراً عن عدم قبوله.


الصفحة التالية
Icon