بات ينزي دَلْوَه تنزّيا... وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء " تصدية " فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصِد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضاً على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى :﴿ إذا قومك منه يصِدون ﴾ [ الزخرف : ٥٧ ] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن " المكاء والتصدية " إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله ﷺ لتقطع عليه يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.
قال القاضي أبو محمد : والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مُكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي ﷺ ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله ﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.
قال القاضي أبو محمد : والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته. أ هـ ﴿المحرر الوجيز حـ ٢ صـ ﴾