وقال ابن عاشور :
﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
قال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب : من وفائهم بالعهد، وخيانتهم، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين، والأمر بالاستعداد لهم ؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة، وكفّوا عن حالة الحرب.
فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم.
والجنوح : المَيْل، وهو مشتقّ من جناح الطائِر : لأنّ الطائِر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش:
قد أيقنَّ أنّ قبيلَه...
إذا ما التقى الجمعان أوَّلُ غالب
فمعنى ﴿ وإن جنحوا للسلم ﴾ إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه، كما يميل الطائِر الجانح.
وإنّما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيداً، فهذا مقابل قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم.
واللام في قوله :﴿ للسلم ﴾ واقعة موقع ( إلى ) لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم ميل حق، أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره، لأنّ حقّ ﴿ جَنح ﴾ أن يعدّى بـ ( إلى ) لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلاّ لغرض، وفي "الكشّاف" : أنّه يقال جنح له وإليه.
والسلم بفتح السين وكسرها ضدّ الحرب.
وقرأه الجمهور بالفتح، وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلَف بكسر السين وحقّ لفظه التذكير، ولكنّه يؤنّث حملاً على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثاً في كلامهم كثيراً.


الصفحة التالية
Icon