والأمر بالتوكّل على الله، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم، ليكون النبي ﷺ معتمداً في جميع شأنه على الله تعالى، ومفوّضاً إليه تسيير أموره، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد، ولذلك عُقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم، أي السميع لكلامهم في العهد، العليمُ بضمائرهم، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم.
وقوله :﴿ فاجنح لها ﴾ جيء بفعل ﴿ اجنح ﴾ لمشاكلة قوله ﴿ جنحوا...
.
وطريق القصر في قوله :﴿ هو السميع العليم ﴾ أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم، أي : فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم.
وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره.
وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ : دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك.
واعلم أنّ ضمير جمع الغائبين في قوله :﴿ وإن جنحوا للسلم ﴾ وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلَها، منهم مشركون في قوله تعالى :﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ]، ومنهم من قيل : إنّهم من أهل الكتاب، ومنهم من تردّدت فيهم أقوال المفسّرين : قيل : هم من أهل الكتاب، وقيل : هم من المشركين، وذلك قوله :﴿ إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ﴾ [ الأنفال : ٥٥، ٥٦ ] الآية.
قيل : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، وقيل : هم من المشركين، فاحتمل أن يكون ضمير ﴿ جنحوا ﴾ عائداً إلى المشركين.
أو عائداً إلى أهل الكتاب، أو عائداً إلى الفريقين كليهما.


الصفحة التالية
Icon