والثاني : وهو الكمالات المتبدلة المتغيرة، وهي الكمالات الجسمانية والسعادات البدنية، فإنها سريعة التغيير والتبدل، كالزئبق ينتقل من حال إلى حال، فالإنسان يتصور أن له في صحبة زيد مالاً عظيماً فيحبه، ثم يخطر بباله أن ذلك المال لا يحصل فيبغضه، ولذلك قيل إن العاشق والمعشوق ربما حصلت الرغبة والنفرة بينهما في اليوم الواحد مراراً لأن المعشوق إنما يريد العاشق لماله، والعاشق إنما يريد المعشوق لأجل اللذة الجسمانية، وهذان الأمران مستعدان للتغير والانتقال، فلا جرم كانت المحبة الحاصلة بينهما والعداوة الحاصلة بينهما غير باقيتين بل كانتا سريعتي لزوال والانتقال.
إذا عرفت هذا فنقول : الموجب للمحبة والمودة، إن كان طلب الخيرات الدنيوية والسعادات الجسمانية كانت تلك المحبة سريعة الزوال والانتقال، لأجل أن المحبة تابعة لتصور الكمال، وتصور الكمال تابع لحصول ذلك الكمال، فإذا كان ذلك الكمال سريع الزوال والانتقال، كانت معلولاته سريعة التبدل والزوال، وأما إن كان الموجب للمحبة تصور الكمالات الباقية المقدسة عن التغير والزوال، كانت تلك المحبة أيضاً باقية آمنة من التغير، لأن حال المعلول في البقاء والتبدل تبع لحالة العلة، وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [ الزخرف : ٦٧ ].
إذا عرفت هذا فنقول : العرب كانوا قبل مقدم الرسول طالبين للمال والجاه والمفاخرة، وكانت محبتهم معللة بهذه العلة، فلا جرم كانت تلك المحبة سريعة الزوال، وكانوا بأدنى سبب يقعون في الحروب والفتن، فلما جاء الرسول ﷺ ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، زالت الخصومة والخشونة عنهم.


الصفحة التالية
Icon