واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم، ولما ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات.
واعلم أن قوله :﴿عَندَ الله﴾ يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان، وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله :﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [ الأنبياء : ١٩ ] فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية، أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية، ولذلك قال :﴿سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ [ الإسراء : ١ ]
فإن قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم ﴿أعظم درجة﴾ مع أنه ليس للكفار درجة ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله :
﴿قُلِ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [ النمل : ٥٩ ] وقوله :﴿أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ [ الصافات : ٦٢ ] الثاني : أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.


الصفحة التالية
Icon