الثالث : أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى :﴿عِندَ رَبّهِمْ﴾ وهي درجة العندية، وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا، ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح، وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا، فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا، فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة.
ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها، وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار، ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك، وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض، ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام، وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال، فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خالدين فِيهَا أَبَداً﴾ وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد، وهو المراد من قوله :﴿عِندَ رَبّهِمْ﴾ وهنا يحق الوقوف في الوصول. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٦ صـ ١٢ ـ ١٣﴾


الصفحة التالية
Icon