وأما قوله :﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، وهو رجب، ومعنى الحرم : أن المعصية فيها أشد عقاباً، والطاعة فيها أكثر ثواباً، والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له.
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السبب في هذا التمييز ؟.
قلنا : إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع، فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة، وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر، وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة.
وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة، فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة، ثم نقول : لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيراً في طهارة النفس، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيراً في خبث النفس، وهذا غير مستبعد عند الحكماء، ألا ترى أن فيهم من صنف كتباً في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك.