ولما كان الحال مقتضياً لبيان ما صاروا إليه بعد إكفارهم من توبتهم أو إصرارهم، بين أنهم قسمان : أحدهما مطبوع على قلبه ومقضي توبته وحبه، وهذا الأشرف هو المراد بقوله بانياً للمفعول إعلاماً بأن المقصود الأعظم هو الفعل، لا بالنظر إلى فاعل معين :﴿إن نعف﴾ لأن كلام الملك وإن جري في مضمار الشرط فهو مرشد إلى تحققه ليحصل الفرق بين كلام الأعلى والأدنى ﴿عن طائفة منكم﴾ أي لصلاحيتها للتوبة ﴿نعذب طائفة﴾ أي قوم ذوو عدد فيهم أهلية الاستدارة، وقرأ عاصم ببناء الفعلين للفاعل على العظمة ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أنهم ﴿كانوا مجرمين﴾ أي كسبهم للذنوب القاطعة عن الخير صفة لهم ثابتة لا تنفك، فهم غير متأهلين للعفو، وشرح هذه القصة أنه كان يسير بين يدي النبي ـ ﷺ ـ في غزوة تبوك ثلاثة نفر من المنافقين : اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والآخر يضحك، قيل : كانوا يقولون : إن محمداً يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم، ما أبعده من ذلك! وقيل : كانوا يقولون : إن محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين في المدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه ـ ﷺ ـ على ذلك فقال : احسبوا الركب عليّ، فدعاهم وقال لهم : قلتم كذا وكذا؟ فقالوا :﴿إنما كنا نخوض ونلعب﴾ أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث واللعب، قال ابن اسحاق : والذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي، يقال : هو الذي كان يضحك، ولا يخوض وكان يمشي مجانباً لهم وينكر بعض مايسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب.
قال : اللهم! لا أزال أسمع آية تقرأ، تقشعر منها الجلود، وتجب منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك! لا يقول أحد : أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره ـ رضى الله عنهم ـ.