الخامس : اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاماً فاسداً على سبيل الطعن والاستهزاء، فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لا على سبيل الجد وذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب، وهذا يدل على أن كلمة "إنما" تفيد الحصر إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين أن لا يكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر.
والجواب : قال الواحدي : أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى، والمعنى : أنا كنا نخوض ونلعب في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهم الرسول بقوله :﴿أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
فرق بين قولك أتستهزىء بالله، وبين قولك أبالله تستهزىء، فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني : يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله، كأنه يقول هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله ونظيره قوله تعالى :
﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [ الصافات : ٤٧ ] والمقصود : ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنة محلاً للغول.
المسألة الثانية :
أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله، ومعلوم أن الاستهزاء بالله محال.
فلا بد له من تأويل وفيه وجوه : الأول : المراد بالاستهزاء بالله هو الاستهزاء بتكاليف الله تعالى.
الثاني : يحتمل أن يكون المراد الاستهزاء بذكر الله، فإن أسماء الله قد يستهزىء الكافر بها كما أن المؤمن يعظمها ويمجدها.
قال تعالى :﴿سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى﴾ [ الأعلى : ١ ] فأمر المؤمن بتعظيم اسم الله.


الصفحة التالية
Icon