ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها، وتارة بقبض اليد عن بذلها، وتارة بالاستمتاع بالخلاف الذي هو النصيب أعم من أن يكون بالمال أو النفس، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله :﴿بأموالهم و أنفسهم﴾ على قوله :﴿في سبيل الله﴾ أي طريق الملك الذي له صفات الكمال، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان الذي بعث المؤمنين، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم، ففعلوا ذلك كله ﴿وقالوا﴾ أي لغيرهم ﴿لا تنفروا في الحر﴾ بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر.
ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله، أمره تعالى أن يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليهم بقوله :﴿قل﴾ أي يا أعلم بخلقنا استجهالاً لهم ﴿نار جهنم﴾ أي التي أعدها الله لمن خالف أمره ﴿أشد حرّاً﴾ ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يتشبهوا بهم طعماً في الحلم فقال تعالى :﴿لو كانوا﴾ أي المنافقون ﴿يفقهون﴾ أي لو كان بهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه، لأن من فر من حر ساعة إلى حر الأبد كان أجهل الجهال، وقال أبو حيان : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه، يعني في قوله ﴿فرح المخلفون﴾ - انتهى.
فتكون الآية حيئنذ جواباً لمن كأنه قال : هذه أحوال من خرج فما حال من قعد؟ وقد خرج بما في هذه الآية من الأوصاف كعب بن مالك ورفيقاه ـ رضى الله عنهم ـ م ونحوهم ممن لم يفرح بالقعود ولا اتصف بما ذكر معه من أوصافهم. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٣ صـ ٣٦٨ ـ ٣٦٩﴾