أما النوع الثالث : وهو أنه قال هناك :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ﴾ وههنا قال :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ﴾ فالفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال، وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه "أن" كقوله :﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله﴾ [ البينة : ٥ ] أي وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله.
وأما النوع الرابع : وهو أنه ذكر في الآية الأولى ﴿في الحياة الدنيا﴾ وههنا ذكر ﴿فِى الدنيا﴾ وأسقط لفظ الحياة، تنبيهاً على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة، بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دناءتها، فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ، والعالم بحقائق القرآن هو الله تعالى.
وأما المقام الثاني : وهو بيان حكمة التكرير فهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب وجلباً للخواطر، إلى الاشتغال بالدنيا، هو الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرة بعد أخرى، إلا أنه لما كان أشد الأشياء في المطلوبية والمرغوبية للرجل المؤمن هو مغفرة الله تعالى، لا جرم أعاد الله قوله :﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ في سورة النساء مرتين، وبالجملة فالتكرير يكون لأجل التأكيد فههنا للمبالغة في التحذير، وفي آية المغفرة للمبالغة في التفريح، وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها، وأراد بهذه الآية أقواماً آخرين، والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة، لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع الآخرين. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٦ صـ ١٢٣ ـ ١٢٤﴾