فقال الحق :﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾ أي أعطوهم مطلوبهم من الإعراض ولكنه لون آخر من الإعراض، فلا تولموهم ولا توبخوهم ولا تؤثموهم، بل أعرضوا عنهم إعراض احتقار وإهانة، لا إعراض صفح ومغفرة ؛ جزاءً لهم على ما فعلوا ؛ لأن التأنيب والتوبيخ هما من ألوان الجزاء على المخالفة، ولكنه قد يحمل الأمل في المخالف ليعود إلى الصواب. فأنت إن لم يذهب ابنك إلى المدرسة مثلاً تُوبِّخه وتُعنِّفه، وأنت تفعل ذلك لأنك تأمل في أن ينصلح حاله، ولكن إذا استمر على مثل هذه الحال فأنت تهمله، والإهمال دليل على أنك فقدت الأمل في إصلاحه.
كذلك كان الأمر بالنسبة للمنافقين، لو أن التوبيخ والإهانة كانت ستجعلهم يفيقون ويعودون إلى حظيرة الإيمان، فهذا دليل على أن هناك أملاً في الإصلاح، وهم لن ينصلح حالهم، وهم في ذلك يختلفون عن المؤمنين، فالمؤمن إن ارتكب إثماً فهو يستحق العتاب والتوبيخ من إخوته في الإيمان، وفي هذا إيلام له. والمؤمن عرضة أن تصيبه غفلة فيرتكب إثماً، فإذا حدث بعد هذا الألم إيلام له من نفسه، أو بواسطة إخوانه المؤمنين، فهو يفيق ويشعر بالذنب، وشعوره بالذنب وصول إلى التوبة.
أما هؤلاء المنافقون فلا ينفع معهم التوبيخ أو الإيلام النفسي ؛ لأنهم لن يعودوا أبداً إلى حظيرة الإيمان، ولذلك جاء الأمر : فأعرضوا عنهم ؛ لأنهم لا يستحقون - حتى - اللوم، فالتوبيخ جزاء على ذنب قد يُقلع عنه من ارتكبه. ولكن هؤلاء لا أمل فيهم، والعلة يأتي بها القرآن :﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ والرجس يطلق على معان متعددة، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ أي : هم الخباثة بذاتها، ويقول العلماء : أي أن فيهم خبثاً وقذارة.