فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى، ولذلك لما أراد ابراهيم، على نبينا وعليه السلام، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال :﴿يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً﴾ وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء، وإن كان قد قاله بعض المفسرين.
قال : دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله :﴿ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً﴾ وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين : صماً بكماً عمياً، بالنصب، وذكروا في نصبه وجوهاً : أحدها : أن يكون مفعولاً.
ثانياً لترك، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم، أو في موضع الحال، ولا يبصرون.
حال.
الثاني : أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما.
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني.
الرابع : أن يكون منصوباً على الحال من الضمير في يبصرون، وفي ذلك نظر.
الخامس : أن يكون منصوباً على الذم، صماً بكماً، فيكون كقول النابغة :
أقارع عوف لا أحاول غيرها...
وجوه قرود تبتغي من تخادع
وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله :﴿فلما أضاءت ما حوله﴾، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم.
وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم.
ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون ؟ فكذلك في النصب.


الصفحة التالية
Icon