ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبه، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " والمراد من المنهيات تركها كلها، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوزة " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم ايضاً عن أبي هريرة ـ رضى الله عنهم ـ، وكانت العرب - كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى ﴿والصلاة الوسطى﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] وفي آل عمران عند قوله ﴿الصابرين والصادقين﴾ [ آل عمران : ١٧ ] عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي - إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام، فأعلم سبحانه أن المراد فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك، وأشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة، فربما كان عنه ضرب وقتل، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال :﴿والناهون﴾ أي بغاية الجد ﴿عن المنكر﴾ أي البدعة.
ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله :﴿والحافظون﴾ أي بغاية العزم والقوة ﴿لحدود الله﴾ أي الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر.


الصفحة التالية
Icon