القول الأول : وهو الذي اختاره أبو مسلم الإصفهاني، أنه ليس المراد منه ذلك، بل المراد من قوله :﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً، وبانيه يسمى عارشاً، قال تعالى :﴿وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [ النحل : ٦٨ ] أي يبنون، وقال في صفة القرية ﴿فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾ [ الحج : ٤٥ ] والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها، وقال :﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء﴾ [ هود : ٧ ] أي بناؤه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة، فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ﴾ [ الزخرف : ١٢، ١٣ ] قال أبو مسلم : فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه.
فنقول : وجب حمل اللفظ عليه، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً.
ثم قال : ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى :﴿خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ إشارة إلى تخليق ذواتها، وقوله :﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى :﴿أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾