و مبالغة بالتأكيد، لأن التكرار مرتين يفيد شدّة الاهتمام والعناية بالمنهي عنه أو المأمور به، فكيف إذا كان ثلاثا "وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٨٥" وهذا تذييل وتتميم لما تقدم من الأمر والنهي.
واعلم أن العثي يعم تنقيص الحقوق كلها، لأن معناه مطلق الفساد، وإنما أكّده بلفظ من معناه إعلاما بأن فعلهم هذا قبيح بذاته، مشين لهم، فيه مفسدة لمصالح دينهم وأمر آخرتهم، ولهذا يقول "بَقِيَّتُ اللَّهِ" التي أبقاها لكم من الحلال في
الدنيا وانتظار الثواب على ترككم الحرام بالآخرة "خَيْرٌ لَكُمْ" مما تسرقونه بالتطفيف إذا بعتم والزيادة إذا اشتريتم "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٨٦" باللّه المنتقم منكم بالدنيا وإن أمهلكم فإنه سينتقم منكم بالآخرة، وإني أتقدم لكم بالنصيحة ابتغاء بقاء نعمكم وخوفا من سلبها إذا أصررتم على ما أنتم عليه (وكلمة بقية) لم تكرر في القرآن "وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ٨٧" لأموالكم وأنفسكم ولا أقدر أن أنمّيها لكم مع ما أنتم عليه من نقص الكيل والوزن، لأن اللّه نهانا عن ذلك، ولست بحفيظ أيضا على أعمالكم كي أجازيكم عليها، لأن ذلك كله بيد اللّه وحده وإنما أنا ناصح ومنذر لكم بأن تحفظوا نعمكم بأداء شكرها وإعطاء حقها "قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ" بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك.
هذا وإن قصدهم بهذا الاستفهام الإنكاري التهكم والتعريض بركاكة رأيه وحاشاه من ذلك، كيف وهو خطيب الأنبياء، وإنما خصوا الصلاة دون بقية أحكام الإيمان لأنه عليه السلام كان أكثر صلاة ممن تقدم من الأنبياء، وكان قومه ينتقدونه بذلك ويقولون له ما تفيدك هذه الصلاة ؟ فيقول هم إنها تنهى عن القبائح كلها وتأمر بمحاسن الأخلاق، ومن هنا قوله صلى اللّه عليه وسلم : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلا بعدا.