﴿ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله ﴾ حيث قدّم فيه الإخفاءُ على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله ﴾ إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبةَ بما يُخفونه أولى منها بما يُبْدونه غرضٌ، بل الأمرُ بالعكس، وأما هاهنا فقد تعلق بإشعار كونِ تعلقِ علمِه تعالى بما يُسرّونه أولى منه بما يعلنونه غرضٌ مُهِمٌّ مع كونهما على السوية، كيف لا وعلمُه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصولِ الصورةِ بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسه علمٌ بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنةِ، وأما قوله تعالى :﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ فحيث كان وارداً بصدد الخطابِ مع الملائكة عليهم السلام المنزهِ مقامُهم عن اقتضاء التأكيدِ والمبالغةِ في الإخبار بإحاطة علمِه تعالى بالظاهر والباطن لم يُسلَكْ فيه ذلك المسلكُ مع أنه وقع الغُنيةُ عنه بما قبله من قوله عز وجل :﴿ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض ﴾ ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبةَ السرِّ متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمرٌ في القلب، فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى متقدمٌ على تعلقه بحالته الثانية ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ تعليلٌ لما سبق وتقريرٌ له واقع موقعَ الكبرى من القياس، وفي صيغة الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلام الاستغراقِ والتعبيرِ عن الضمائر بعنوان صاحبيها من البراعة ما لا يصفه الواصفون كأنه قيل : إنه مبالغٌ في الإحاطة بمضمرات جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيةِ المستكنّةِ في صدورهم بحيث لا تفارقها أصلاً، فكيف يخفى عليه ما يُسرّون وما يعلنون، ويجوز أن يُراد بذات الصدورِ القلوبُ من قوله تعالى :﴿ ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور ﴾ والمعنى أنه
عليمٌ بالقلوب وأحوالِها فلا يخفى عليه سرٌّ من أسرارها. أ هـ ﴿تفسير أبى السعود حـ ٤ صـ ﴾


الصفحة التالية
Icon