ومن البداهة أن نعرف أن الإصبع لا تدخل كلها إلى الأذن، إنما الأنملة تسد فقط فتحة السمع، وعدَّل القرآن الكريم ذلك بمبالغة تكشف موقف نوح عليه السلام، فكل منهم أراد أن يُدخِل إصبعه في أذنه حتى لا يسمع أي دعوة، وهذا دليل كراهية، وهذه شهادة ضدهم ؛ لأنهم يفهمون أنهم لو سمعوا فقد تميل قلوبهم لما يقال.
ولذلك نجد أن القرآن الكريم وهو ينقل لنا ما قاله مشركو مكة لبعضهم البعض :
﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ].
فكأنهم تواصوا بالتشويش على القرآن، ثقة منهم في أن القرآن لو تناهى إلى الأذن فقد يؤثر في نفسية السامع ؛ لأن النفس البشرية أغيار، و قد تأتي للنفس ما يجعلها تميل دون أن يشعر صاحبها.
ولو كان هذا القرآن باطلاً، فلماذا خافوا من سماعه؟
ولكنه الغباء في العناد والكفر.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [ هود : ٥ ].
وهم قد استغشوا ثيابهم ليغطوا وجوههم ؛ مداراة للانفعالات التي تحملها هذه الوجوه، وهي انفعالات كراهية، أو أنها قد تكون انفعالات أخرى، فساعة يسمع واحد منهم القرآن قد ينفعل لما يسمع، ولا يريد أن يُظهر الانفعال.
إذن : فالانفعال قد يكون قسرياً، وكان كفار قريش رغم كيدهم وحربهم لرسول الله ﷺ، يتسللون ناحية بيت النبي ﷺ ليسمعوا القرآن، وكانوا يضبطون بعضهم البعض هنالك، ويدّعي كل منهم أنه إنما مرَّ على بيت النبي صلى لله عليه وسلم مصادفة.
وفي ذلك يقول الشاعر :

اذكُروهُمْ وقد تسلَّل كلُّ بعدَ ما انفضَّ مجلسُ السُّمَّارِ
اختلاساً يسْعَى لحجرةِ طَهَ لسَماعِ التنزيلِ في الأسْحَارِ
عُذْرهم حُسْنُهُ فلمّا تَراءَوْا عَلَّلوها ببَارزِ الأعْذَارِ


الصفحة التالية
Icon