ومما تقدم يظهر أن ايراد الكلام مورد الترجي والاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد ومقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهى إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع والطاعة ويكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم ويلومهم على تمردهم واستكبارهم على ما بهم من الضعف والذلة ولمولاهم من القوة والسطوة والعزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، ويكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم وإذا فيه : لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلى وإنما افتريته على افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ وان كان الثاني فإن الكتاب بخطى كتبته بيدى وختمت عليه بخاتمي ولا يقدر أحد غيرى أن يقلدنى في ذلك.
والتأمل في هذا المثال يعطى أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد وأن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الابلاغ وزعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب والفرية جدا، وإنما ذكر الوجهان
لداعى أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان وهو أن الرسول ليس له من الأمر شئ حتى يقترح عليه بما يقترح، وأن الكتاب للملك ليس فيه ريب ولا شك.
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى :( فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك ) الخ، ليس يفيد الترجي الجدى ولا مسوقا لتوبيخ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا مرادا به تسليته وتطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن والاسى بكفرهم وجحودهم لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله :( إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل ).


الصفحة التالية
Icon