وقال القرطبى :
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يا نوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾
أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها.
والجَدَل في كلام العرب المبالغة في الخصومة ؛ مشتق من الجَدْل وهو شدّة الفَتْل ؛ ويقال للصقر أيضاً أَجْدَل لشدّته في الطّير ؛ وقد مضى هذا المعنى في "الأنعام" بأشبع من هذا.
وقرأ ابن عباس "فَأَكْثَرْتَ جَدَلَنَا" ذكره النحاس.
والجَدَل في الدين محمود ؛ ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قَبِله أنجح وأفلح، ومن ردّه خاب وخَسِر.
وأما الجِدال لغير الحقّ حتى يظهر الباطل في صورة الحقّ فمذموم، وصاحبه في الدّارين ملوم.
﴿ فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ أي من العذاب.
﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ في قولك.
قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ ﴾ أي إن أراد إهلاككم عذّبكم.
﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي بفائتين.
وقيل : بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك ؛ كانوا مَلَؤوا الأرض سهلاً وجبلاً على ما يأتي.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي ﴾ إي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم.
﴿ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ ﴾ أي لأنكم لا تقبلون نصحاً ؛ وقد تقدّم في "براءة" معنى النصح لغة.
﴿ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ أي يضلّكم.
وهذا مما يدلّ على بطلان مذهب المعتزلة والقَدَرية ومن وافقهما ؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يَعصي العاصي، ولا يَكفر الكافر، ولا يَغوي الغاوي ؛ وأنه يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك ؛ فردّ الله عليهم بقوله :﴿ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾.
وقد مضى هذا المعنى في "الفاتحة" وغيرها.


الصفحة التالية
Icon