وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يُشبك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما نرى عربية، مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة. ولله در شأن التنزيل ! لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ؛ لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير ( بعد علم الأصول ) أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه. ولَكَم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها، واستلبت ماءها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون، ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً - انتهى كلام السكاكي -.