فصل


قال الفخر :
﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ﴾
اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان، فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفإن قيل كذا وكذا ﴿يا أرض ابلعى مَاءكِ﴾ يقال بلع الماء يبلعه بلعاً إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعاً إذا لم يمضغه، وقال أهل اللغة : الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها ﴿ ويا سماء أَقْلِعِى﴾ يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه، وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت ﴿وَغِيضَ الماء﴾ يقال غاض الماء يغيض غيضاً ومغاضاً إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته، ودلع اللسان ودلعته، ونقص الشيء ونقصته، فقوله :﴿وَغِيضَ الماء﴾ أي نقص وما بقي منه شيء.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه : فأولها : قوله :﴿وَقِيلَ﴾ وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة، بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه، على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو.
وثانيها : قوله :﴿يا أرض ابلعى مَاءكِ ويا سماء أَقْلِعِى﴾ فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، صار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره، وكمال قدرته ومشيئته.


الصفحة التالية
Icon