فحين تأتي رِيحٌ صَرْصَرٌ أو صَيحةٌ طاغيةٌ، فهذا العذاب من خارجهم، وما دام العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله ؛ فقد يَعُمُّ المكذِّبين لسيدنا هود، ومعهم المصدِّقون به وبرسالته، فكيف يتأتَّى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذِّبين فقط، وتخرق تلك الآذان ؛ وتترك آذان المؤمنين؟
إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير. إن مُوجِّه الصيحة قد حدَّد لها مَنْ تُصيب ومن تترك، وهي صيحة موجَّهة، مثلها مثل حجارة سِجِّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده ؛ مع نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة ؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادَّعى بعضٌ من المتفلسفين.
وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد ؛ ولكنه يُنجي المؤمن ؛ ويعذِّب الكافر ؛ فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه.
يقول المتنبي :
تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أوجُهِنا | وَمَا تُسوِّدُ بِيضَ العَينِ والَّلمَمِ |
وَكَانَ حَالُهُما فِي الحُكْمِ واحِدَةً | لَو احْتَكَمْنَا مِنَ الدُّنْيَا إلَى حَكَمِ |
والحق سبحانه يقول هنا :
﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ [ هود : ٥٨ ].
فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام ؛ لأن هذه هي الرحمة.
والرحمة كما نعلم هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر ؛ أما الشفاء فهو يعالج الداء.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ].
ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين :