قال ابن جريج : إنما خص الناصية ؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنساناً بالذلّة والخضوع ؛ فيقولون : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء.
وكانوا إذا أسروا أسيراً وأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخراً عليه ؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم.
وقال الترمذيّ الحكيم في "نوادر الأصول" قوله تعالى :﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ وجهه عندنا أن الله تعالى قدّر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقد نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور آخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدّرة عليهم يوم المقادير.
وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ؛ رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :" قّدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ".
ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظاً من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوِي هود النبي ﷺ حتى قال :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾.
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾.
وإنما سمِّيت ناصية لأن الأعمال قد نصّت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دبّ على الأرض حياً في جبهته بين عينيه، فسُمّي ذلك الموضع منه ناصية ؛ لأنها تنص حركات العباد بما قدّر ؛ فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها.