ثم قال تعالى :﴿إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم، أما الحليم فهو الذي لا يتعجل بمكافأة غيره، بل يتأنى فيه فيؤخر ويعفو ومن هذا حاله فإنه يحب من غيره هذه الطريقة، وهذا كالدلالة على أن جداله كان في أمر متعلق بالحلم وتأخير العقاب، ثم ضم إلى ذلك ماله تعلق بالحلم وهو قوله :﴿أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ لأن من يستعمل الحلم في غيره فإنه يتأوه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير فلما رأى مجيء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك وأخذ يتأوه عليه فلذلك وصفه الله تعالى بهذه الصفة، ووصفه أيضاً بأنه مُنيب، لأن من ظهرت فيه هذه الشفقة العظيمة على الغير فإنه ينيب ويتوب ويرجع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم، أو يقال : إن من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشدائد فأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها كان أولى، ولا طريق إلى صون النفس عن الوقوع في عذاب الله إلا بالتوبة والإنابة فوجب فيمن هذا شأنه يكون منيباً.
﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾
اعلم أن قوله :﴿يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ معناه : أن الملائكة قالوا له : اترك هذه المجادلة لأنه قد جاء أمر ربك بإيصال هذا العذاب إليهم وإذا لاح وجه دلالة النص على هذا الحكم فلا سبيل إلى دفعه فلذلك أمروه بترك المجادلة، ولما ذكروا ﴿إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ﴾ ولم يكن في هذا اللفظ دلالة على أن هذا الأمر بماذا جاء لا جرم بين الله تعالى أنهم آتيهم عذاب غير مردود، أي عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٨ صـ ٢٤ ـ ٢٦﴾