نعم إن الله يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له.. ولكن هذا شيء والقول بتقيد إرادته بهذه النواميس بعد وجودها شيء آخر! إن الناموس يجري وينفذ بقدر من الله في كل مرة ينفذ فيها. فهو لا يجري ولا ينفذ آلياً. فإذا قدر الله في مرة أن يجري الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات سابقة كان ما قدره الله ولم يقف الناموس في وجه القدر الجديد.. ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل النواميس هو طلاقة المشيئة بلا قيد على الإطلاق، وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر خاص طليق.
وإلى هنا كان إبراهيم عليه السلام قد اطمأن إلى رسل ربه، وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه. ولكن هذا لم ينسه لوطاً وقومه وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريباً منه وما ينتظرهم من وراء إرسال الملائكة من هلاك واستئصال. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود لا تجعله يطيق هلاك القوم واستئصالهم جميعاً :
﴿ فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا في قوم لوط. إن أبراهيم لحليم أواه منيب ﴾.
والحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ولا يثور. والأوّاه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى. والمنيب الذي يعود سريعاً إلى ربه.. وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن يجادل الملائكة في مصير قوم لوط وإن كنا لا نعلم كيف كان هذا الجدال لأن النص القرآني لم يفصله، فجاءه الرد بأن أمر الله فيهم قد قضي وأنه لم يعد للجدال مجال :
﴿ يا أبراهيم أعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ﴾..
ويسكت السياق. وقد سكت ولا شك إبراهيم.. ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك على مشهد حافل بالحركة والانفعال مع لوط. وقوم لوط في مدن الأردن : عمورية وسدوم.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً، وقال : هذا يوم عصيب! ﴾.


الصفحة التالية
Icon