والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلاً.
ونحن نلحظ هنا أن كلمة " الناس " جمع، وكلمة " أشياءهم " جمع أيضاً، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحاداً. أي : لا تبخس الفرد شيئاً، وإنْ قَلَّ.
ونجد واحداً من العارفين بالله قد استأجر مطيَّة من خان ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به، فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشياً على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه، ثم رجع ماشياً إلى مكان الدابة ليركبها، فقال له واحد من الناس : لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود ؛ فأجاب العارف بالله : لقد استأجرتها لأصِلَ بها إلى مكان في اتجاه معين، ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط.
ونجد عارفاً آخر جلس يكتب كتاباً، وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد بوضع قليل من الرمال فوق الصفحات المكتوبة، ولم يجد العارف بالله ما يجفف به المكتوب، فأخذ حفنة من تراب بجانب جدار، ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له : أنا أخذت تراباً من جانب جدارك فقوِّمه فقال صاحب الجدار : والله لِورَعِك لا أقوِّم، أي : أنه قد تسامح في هذا الأمر.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :
﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ [ هود : ٨٥ ].
وكلمة عثا، يَعْثي، ويعثوا، وعثى. يعثي ؛ كلها تعني : زاول فساداً، أي : أن يعمد الإنسان إلى الصالح في ذاته فيفسده، مثل طَمْر بئر ماء، أو حفر طريق يسير فيه الناس، وهو كل أمر يخرج الصالح في ذاته عن صلاحه.
والمجتمع كله بكل فرد فيه مأمور بعدم مزاولة الفساد، ولو طبَّق كل واحدٍ ذلك لصار المجتمع كله صالحاً، ولكن الآفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد، ولكنه هو نفسه يفسد، ولا يريد من أحد أن يعترض عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾


الصفحة التالية
Icon