ومثال هذا : أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلاً، هذه المعرفة وهذه الخبرة لا تكفيان للوصول والنفاذ إلى مكانه، بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر، وهو الدقة واللطف.
والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلام ليسلِّي رسوله ﷺ، لأن بعضاً من الكافرين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام قالوا : ما دام الله يأتي بالعذاب ليبيد من يكفرون برسله، فلماذا لا يأتي لنا العذاب؟
ولهذا جاء ما يخبر هؤلاء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين، لا محالة، فإياك أن يخادعوك يا رسول الله في شيء، أو يساوموك على شيء، مثلما قالوا : نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.
وقد سبق أن قطع الحق سبحانه هذا الأمر بأن أنزل :
﴿ قُلْ ياأيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ [ الكافرون : ١٤ ].
وهذا هو قطع العلاقات التام في تلك المسألة التي لا تقبل المساومة، وهي العبادة.
ونحن نعلم أن العبادة أمر قلبي، لا يمكن المساومة فيه، وقطع العلاقات في مثل هذا الأمر أمر واجب ؛ لأنه لا يمكن التفاوض حوله ؛ فهي ليست علاقات ظرف سياسي، ولكنه أمر ربَّاني، يحكمه الحق سبحانه وحده.
وقول الحق سبحانه :
﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ [ الكافرون : ٢٤ ].
هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على عبادة غير الله، وأن محمداً سيظل على عبادة الله، وأن كلمة " الله " ستعلو ؛ لأن الحق سبحانه يأتي بعد سورة " الكافرين " بقوله تعالى :
﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح * وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾ [ النصر : ١٣ ].