وإذا ثبت هذا قلنا : إنه استثناء منقطع، والتقدير : لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي.
والسبب الثاني : لنزول عذاب الاستئصال قوله :﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ﴾ والترفه النعمة وصبي مترف إذا كان منعم البدن، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتبعوا طلب الشهوات واللذات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ﴾ أي واتبعوا حراماً أترفوا فيه، ثم قال :﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ ومعناه ظاهر.
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾
اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه :
الوجه الأول : أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى :﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [ لقمان : ١٣ ] والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم.
ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة.
وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح.
ويقال في الأثر الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، فمعنى الآية :﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ﴾ أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح والسداد.
وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية، قالوا : والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق.