والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان، وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس، وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حدَّ لها ولا حصر، والعقول مضطربة، والمطالب غامضة، ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة، ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير، والصناعة طويلة، والقضاء عسر، والتجربة خطر، فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة، كان ذلك أولى.
فإن قيل : إنكم حملتم قوله تعالى :﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ على الاختلاف في الأديان، فما الدليل عليه، ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال.
قلنا : الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله :﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة، وما بعد هذه الآية هو قوله :﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله :﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ وذلك ليس إلا ما قلنا.
ثم قال تعالى :﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلم يبق إلا أن يقال : تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة.
قال القاضي معناه : إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب، فيرحمه الله بالثواب، ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه، فصار مؤمناً بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف.


الصفحة التالية
Icon