قلت : فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه ؛ ذكره أبو سعيد الأَسْفاقُسِي عن بعض أهل العلم قال : معنى قوله :"جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة" فإن الله تعالى أوحى إلى محمد ﷺ في النبوّة ثلاثة وعشرين عاماً فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاماً وجدنا ذلك جزءاً من ستة وأربعين جزءاً ؛ وإلى هذا القول أشار المازَريّ في كتابه "المعلم" واختاره الغزنويّ في تفسيره من سورة "يونس" عند قوله تعالى :﴿ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا ﴾ [ يونس : ٦٤ ].
وهو فاسد من وجهين : أحدهما ما رواه أبو سَلَمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدّة الوحي كانت عشرين سنة، وأن النبي ﷺ بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين ؛ وهو قول عروة والشعبيّ وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيّب على اختلاف عنه، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل الثاني : أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى.
الثالثة : إنما كانت الرؤيا جزءاً من النبوّة ؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب ؛ كما قال عليه السلام :" إنه لم يبق من مبشِّرات النبوّة إلا الرؤيا الصادقة في النوم " الحديث.
وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوّة ؛ قال ﷺ :" الرؤيا من الله والحُلْم من الشيطان " وأن التصديق بها حقّ، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه ؛ ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشِرذمة من المعتزلة.